من وحي الإجازة (1)
محمد بن أحمد الرشيد ( وزير التربية السابق)
إنني من (دعاة المشي)، وأرجو أن تنتشر (نوادي المشاة، وممراته، وجاداته) في أرجاء وطننا، فلا تخلو منها مدينة ولا قرية! وأقول لإخواني واخواتي: "من ترك المشي تركه المشي" ولابد في البدايات من صعوبات، ولكن (المكافأة) أكبر بكثير من الجهد المبذول في تحصيلها".
* "أوقات العمل تملكنا ولا نملكها، بينما أوقات الفراغ نملكها ولا تملكنا ففي أوقات العمل نقوم بما (يجب) علينا فعله وإن كنا لا (نريده)، ولكنا في أوقات الفراغ نقوم بما (نحب) أن نعمله وإن لم يكن (واجباً) علينا فعله" وهذا ما أفعله تماماً، فأستفيد من (إجازتي) بالقراءة المتنوعة: في صفحات (الكتب) المختلفة، وفي صفحات (الحياة) المتبانية، وفي وجوه (الناس) وتصرفاتهم، وأحاديثهم وأفعالهم، وانفعالاتهم...
مَنء من العاملين لا يتطلع بشوق إلى الإجازة، ويرجو أن تكون مناسبة للراحة والاستجمام، والتسلية والترفيه، والتخلص من ضغوط العمل ونظامه، وأعباء الأسرة ومتاعبها..، وقد يصدق هذا التوقع وقد يخيب.
كانت هذه الأفكار وسواها تتزاحم في خاطري والطائرة تسبح بي بين الغيوم، وأنا، مع بعض أفراد أسرتي، متوجهين إلى المكان الذي اخترناه لقضاء إجازة الصيف المنصرم.
@ @ @
ثم تساءلت ما معنى (الإجازة) في لغتنا الجميلة؟ وهممت بأن أطلب من المضيف أن يحضر لي بدلاً من كوب القهوة معجماً عربياً أقلب أوراقه بحثاً عن (الإجازة) ومعانيها، ثم آثرت ترك هذه المداعبة، لكن تساؤلي رافقني إلى أن عدت إلى أرض الوطن، وفتحت "المعجم الوسيط" الذي كان في متناول يدي على مادة (أجَزَ)، فأحانلي إلى (جَوَز) فعجبتُ كيف لم يذكر (الإجازة) بالمعني الذي نتحدث عنه، لكنه قال:
أجاز الشيء: جعله جائزاً وأجاز العقد وغيره: أمضاه وأنفذه، وأجاز: أعطاه الجائزة. وأجاز العالم تلميذه، أذن له في الرواية عنه.. أما (الإجازة) بمعنى (العطلة) فلم يرد لها ذكر!!
@@@
وعلى كل حال: فالأمر أيسر من أن نطيل البحث فيه. وأرجع إلى ما كنت أريد الكتابة عنه من وحي إجازتي الصيفية الماضية التي امتدت أكثر من شهرين، ولعلها أطول أجازة أتمتع بها.
@@@
قرأت - فيما مضى - مقالاً لعباس محمود العقاد مقالاً رائعاً عن (أوقات الفراغ) أعجبني، ورأيتني مقتنعاً به أتم الاقتناع، وأزاوله في حياتي، وكأن الكاتب الكبير - رحمه الله - عبّر عن أفكاري بأسلوب لا أقدر عليه، ومما بقي في الذهن منه.
"أوقات العمل تملكنا ولا نملكها، بينما أوقات الفراغ نملكها ولا تملكنا ففي أوقات العمل نقوم بما (يجب) علينا فعله وإن كنا لا (نريده)، ولكنا في أوقات الفراغ نقوم بما (نحب) أن نعمله وإن لم يكن (واجباً) علينا فعله" وهذا ما أفعله تماماً، فأستفيد من (إجازتي) بالقراءة المتنوعة: في صفحات (الكتب) المختلفة، وفي صفحات (الحياة) المتبانية، وفي وجوه (الناس) وتصرفاتهم، وأحاديثهم وأفعالهم، وانفعالاتهم...
@@@
أذكر - مرة أخرى - مقالاً كتبه الصحافي اللامع أحمد بهاء الدين - رحمه الله - عن إجازته التي كان يقضيها خارج الوطن، وأن أول ما كان يبحث عنه رصيف طويل ليس متهدماً، ولا متسخاً، عديم الحفر، غير مزدحم بالمارة يمارس فيه رياضته المفضلة: المشي. وحالي مثل حاله تماماً؛ فأنا - منذ أكثر من عشرين سنة ولله الحمد - أمارس رياضة المشي يومياً، هذه العادة التي تجذرت عندي، وأصبحت لا أطيق الانقطاع عنها، وكأنها (إدمان)، وفيها تتجدد لياقتي البدنية، والذهنية والنفسية، وتنهال عليَّ فيها الخواطر، وحلول المشكلات، وأغسل بعد عودتي منها مع وعثاء الرياضة - كثيرا من الهموم وأسباب القلق..
لذا فإن أول متطلباتي لمكان إقامتي في الإجازة قربه من مضمار المشي. وأنا - في إجازتي - أمشي ضعف ما أمشيه في الوطن، وذلك:
1- لتوافر الجادات النظيفة الطويلة المنبسطة المهيأة للمشاة، والراكضين، والعدائين، وحين أقول طويلة فإني أتحدث عن عشرات الأميال التي لا تتقاطع مع الشوارع، ولكن حين تمر بها فإن الممر يكون في نفق أسفل الشارع أو على جسر يعلوه وبين كل ميل وآخر لوحة تبين المسابقة التي قطعها الماشي.
2- ولمناسبة المناخ، فلا برودة ولا حرارة شديدة.
3- كثرة المشاة من كافة الأعمار التي تشعرني بالأنس وفي كثير من الأحيان نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع شتى.
4- قلة الارتباطات الوظيفية، والاجتماعية التي تشد الإنسان وهو في بيئته ومحيطه.
5- لاستفادتي من وقت المشي في غالب الأحيان إلى الاستماع إلى بعض الكتب المقروءة، أو الأشرطة العلمية التي أريد الاستماع إليها ولا أجد الوقت إلا في أثناء المشي، وفي بعض الأوقات أستمع إلى برامج الحوارات المتنوعة من الراديو.
6- المناظر الخلابة من ماء وخضرة دون تلوث بيئي في الأرض أو الفضاء.
وبالمناسبة فأنا أشجع الصغار والكبار، والنساء والرجال، على أن يتخذوا المشي هواية وعادة، وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أنه يمكن مزاولته في أي وقت ومكان.
2- لا يكلف مالاً، ولا يحتاج إلى تجهيزات ومعدات.
3- تتحرك فيه أكثر من 70% من عضلات الجسم.
4- مرن جداً فتزاد شدته ومدته كما يريد الماشي.
5- لا يحتاج إلى مهارات خاصة وتدريب مقارنة بالرياضات الأخرى.
6- يمكن مزاولته فردياً أو جماعياً.
7- خال نسبياً من الإصابات.
@@@
وبمناسبة الحديث عن المشي فإنه حين أعلمني الأخ الفاضل الدكتور صالح بن سعد الأنصاري، مدير عام الصحة المدرسية بوزارة التربية والتعليم عن عزمه على تأليف كتاب بعنوان: "صحتك في المشي" شجعته على ذلك بل رجوته أن يسرع في إخراجه وطباعته لتعم به الفائدة، وكتبت لكتابه مقدمة حين طلب مني ذلك وكان المقدمة بعنوان "من ترك المشي تركه المشي". كما أسهمت بمقالة في صلب الكتاب بعنوان: "تجربتي مع المشي" جاء فيها:
"بدأ تجربتي مع المشي عام 1408ه.. كنت في ذلك الحين غارقاً في خضم من الأعباء والالتزامات الوظيفية، والاجتماعية، والتطوعية، لا أكاد أجد لنفسي وقتاً أخلو بها، ولأسرتي أقضيه معها!. ومن الطبيعي - لمن هذه حالهم - أن يشعروا بالتعب والإرهاق، والضغط والتوتر، وزيادة الوزن لقلة الحركة، وما إلى ذلك مما هو معروف.
كان بعض الأصدقاء الأوفياء يكلمونني عن أهمية الرياضة وضرورتها، فأبادرهم بالقول: هذه صحيح لمن يجد وقتا، أما أنا فمن أين لي ساعة أنفقها في هذا الترف كل يوم؟!
وفي صباح أحد الأيام شعرت بتعب مفاجئ، وضعف في الجسم لم أعهده من قبل، فتوجهت إلى المستشفى، وبعد الفحوص اللازمة ظهر ما كان متوقعاً: كل شيء في الجسم على شفا الحد الأقصى: ضغط الدم، السكري، والكليسترول، استرخاء العضلات... الخ.
والحل؟؟ الرياضة البدنية!
طُرحت أمامي حلول عدة اخترت من بينها المشي لأنه أسهلها، وأقربها للطبيعة الإنسانية، ولا يحتاج إلى مدرب، وأدوات ومعدات، ومكان خاص.... وأحسست أنه أمر لا مفر منه، ولا مجال لتأجيله أو التسويف فيه.
بدأت على مضض! أمشي كل يوم نصف ساعة ثقيلة أغالب فيها نفسي! وحينما يأتي وقت المشي أشعر بهمّ وضيق!
وهيأ الله لي بعض الأصدقاء الكرام فبدأت أمشي معهم، وخلال المشي نتجاذب أطراف الحديث، والحديث ذو شجون، فما عدت أشعر بثقل الوقت، وتطور الأمر معنا: لماذا لا يحدثنا كل واحد منا يوماً عن كتاب قرأه، أو موضوع بحث فيه؟ وامتد الوقت إلى ساعة كل يوم حتى يستوفى النقاش، ثم امتدت الساعة إلى أكثر من ذلك...! وكنت إذا لم تسنح الفرصة بالاجتماع، واحتجت إلى المشي وحدي - أستعين بمسجل صغير استمع به إلى بعض الأشرطة المفيدة النافعة.
وبعد أشهر قليلة شعرت بتحسن صحتي ونفسي: تحسن نومي، ازداد انشراح صدري، عادت كل التحاليل المرتفعة إلى المجال الطبيعي قلَّت إصابتي بالرشح والزكام، وكنت إذا خرجت للمشي مهموماً مثقلاً، ما أكاد أمضي نصف ساعة حتى أشعر بالهموم بدأت تنزاح، والغيوم تنقشع، فما أنهي رياضتي حتى أعود نشيطاً، متفائلاً، إيجابياً في موقفي حيال أعباء الحياة وتحديات العمل ومشكلات العيش.
بدأتُ رياضتي وجسمي يدعوني إلى الكسل والقعود. وانتهيتُ وجسمي يدعوني للمشي. فإذا تركته، شعرت بالتقصير، وأن شيئاً قد ضاع مني! ويمكنني القول: أصبحت عادة المشي عندي قريبة من (الإدمان).
ثم أخذت أقرأ عن المشي كل ما يقع عليه بصري، وخاصة باللغة الانجليزية، فتعلمت مثلاً أن المشي المفيد هو (المشي النشيط) الذي يقترب من الهرولة ولا يصل إليها، لا (التمشي المتسكع)، وأن تقويم العمود الفقري، ورفع الرأس مهمان في أثناء المشي، وأن كثيراً من الزعماء والكرام والفاعلين في مجتمعاتهم لا يستغنون عن المشي، ولا يعتذرون بكثرة مشاغلهم وأعبائهم، لأنهم لو لم يمشوا لما استطاعوا القيام بها، فأزدادت العادة فيّ تمكناً، حتى إذا ضاق وقت يقظتي اقترضت ساعة من وقت نومي ومشيت فيها!
أنا أمشي دائماً بفضل الله في الصيف والشتاء، في الحر والقر، وفي الحضر والسفر، في الصوم والفطر، في الصحو والمطر (وأصطحب للمطر معطفاً يقيني من البلل)... بل إنني صرت دائم الترديد لعبارة جعلها أحد المؤلفين عنواناً لكتابه، تقول: (البركة في السعي والحركة)، فصرت أتجنب استعمال المصعد وأرقى الأدراج، وأصبحت أحضر حاجياتي بنفسي في منزلي بدلاً من أن أطلب من الأولاد إحضارها.
إنني من (دعاة المشي)، وأرجو أن تنتشر (نوادي المشاة، وممراته، وجاداته) في أرجاء وطننا، فلا تخلو منها مدينة ولا قرية! وأقول لإخواني واخواتي: "من ترك المشي تركه المشي" ولابد في البدايات من صعوبات، ولكن (المكافأة) أكبر بكثير من الجهد المبذول في تحصيلها".
@@@
هذا الكتاب المفيد - الذي أشرت إليه آنفاً - طبع ثلاث مرات حتى الآن، واستفاد منه الكثير وزاد عليه أن ألف الدكتور الأنصاري كتاباً آخر بعنوان "المشي علاج للسمنة".
@@@
وفي إجازتي صيف عامنا هذا أصابني ذهول ليس من كثرة المشاة في ذلك البلد فحسب بل في عدد الكتب المؤلفة بعناوين مختلفة عن المشي وفوائده، وكذا المقالات الصحفية ومما زادني طمأنينة أن الكتب والمقالات تؤكد أن المشي في الهواء الطلق هو أجدى أنواع المشي وأكثرها فائدة وهذا ما كنت أحبذه دائماً وأنصح به.
@@@
وأخيراً أذكر أن علماءنا يقولون: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فإذا كانت محافظة الفرد على صحته، وتحسينها، يعتمدان بصورة رئيسية على عدد قليل من الأسباب من أهمها: الرياضة البدنية، وأن إهمال الرياضة البدنية يؤدي إلى ظهور الكثير من الأمراض والأعراض، فهل يسوغ لنا أن نقول: إن ممارسة الرياضة تقترب من كونها واجباً شرعياً على الجميع صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً كل حسب ما يناسبه من الرياضات؟؟ تساؤل لا تقرير!!.
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأَمِدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.